دراسات إسلامية

 

 

المرأة ودورها في بناء المجتمع

 

بقلم :  فضيلة الشيخ/ شوقي عبد اللطيف

 

 

 

 

 

     * للمرأة مكانة سامية في الإسلامي، ومن يتتبع آيات القرآن الكريم ويقف عندها متأملاً يوقن لأول وهلة تلك المكانة التي لاتقل بأي حال من الأحول عن مكانة الرجل فحواء أم البشر يعرف فضلها القاصي والداني فهي زوج آدم ولولاها ما كانت الذرية وما كان التناسل لعمارة الأرض. قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا الله رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ (سورة الأعراف آية 189). وقال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ سورة النساء آية1.

     * وحتى تتضح تلك المكانة. نجد أن الخطاب من الله – عز وجل – لآدم لم يقتصر عليه وحده بل خاطب الله عز وجل حواء معه لتكون شريكاً له في تحمل المسؤولية قال تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظّٰلِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطٰنُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمٰتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (سورة البقرة الآيات 35-38).

     *  ونلاحظ من خلال هذه الآيات أن المسؤولية كانت مشتركة بين آدم وزوجه ومن يعتقد أن حواء كانت السبب في إخراج آدم من الجنة هو اعتقاد خاطئ وباطل لا أساس له من الصحة وقول غير صحيح ما قال به أحد من العلماء أو العقلاء.

     * وتزداد مكانة المرأة توهجاً وتألقاً عندما نجد في القرآن الكريم سورةً تحمل اسم النساء كما نجد الكثير من سور القرآن وآياته تسهب الحديث عن النساء فلقد تحدث القرآن الكريم عن السيدة الجليلة: «مريم ابنة عمران» وما قامت به من خدمة لدينها ودنياها فقد قامت منذ نعومة أظافرها على خدمة بيت المقدس وهذا العمل هو من أجل الأعمال قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطٰنِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (سورة آل عمران الآيات 35-37).

     * كما بين لنا القرآن الكريم المعاناة التي لاقتها من سفهاء اليهود وكيف تعاملت معهم بأخلاق الصديقين. وصفاء المؤمنين، وقوة الأقوياء، وحكمة العقلاء.

     يحكى لنا القرآن الكريم ذلك في مشهد قرآني ينم عن أصالة مريم «عليها السلام» والتزامها بالخلق الرفيع الذي قابلت به إساءة المغرضين عندما تناولوها بالتجريح واتهموها في عرضها، وشرفها قائلين: ﴿يٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هٰرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ (سورة مريم الآيتان 27-28).

     * فقابلت هذه البذاءات والاتهامات بالصمت المهيب، والصبر الجميل، والثبات الرصين قائلة: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ (سورة مريم آية 26).

     * إن مريم العذراء بصبرها الجميل وعقلها الرصين وفكرها الثابت وإيمانها العميق تزن مئات الرجال بل الآلاف وبهذا استحقت كريم السماء، ويكفيها فخراً أنها تحملت الكثير بسبب حملها بنبي الله عيسى عليه السلام بكلمة «كن» فقدمت للبشرية «عيسى ابن مريم» الذي امتن الله عليه بالرسالة فملأ الأرض عدلاً وحباً وسلاماً وكافح عنت وغرور بني إسرائيل حتى رُفِعَ حيًا إلى السماء.

     * قال تعالى: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقٰنِتِينَ﴾ (سورة التحريم آية 12).

     * إن الإسلام يزن الإنسان بعمله لا بنوعه ونسبه وحسبه، فالعمل في الإسلام هو المعيار، والتقوى هي التي ترجع كفة الميزان، فهذا فرعون في ملكه وجبروته، وسطوته، وقوته، وملكه لا يعدل عند الله جناح بعوضة؛ لأنه ضل وأضل وأورد قومه موارد الهلكة، وها هي آسية زوج فرعون الطاغية بإيمانها القوي وفكرها الثاقب وآرائها السديدة تتفوق على آلاف الرجال حينما خالفت الآراء الفاسدة والأفكار الجانحة لفرعون وأتباعه فاستحقت أن يخلد ذكرها مابقيت الحياة، وأن تتبوأ المكانة السامقة في جنات عدن في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وصارت مثلاً يحتذى به للباحثين عن الحقيقة، والراغبين في الإيمان قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (سورة التحريم آية 11).

     * وفي مشهد قرآني مهيب يقص علينا رب العزة قصة بلقيس ملكة سبأ مبينًا لنا كيف تعاملت مع الأحداث بحكمة الحكماء، وذكاء القادة، ورصانة الزعماء، وأمانة المسؤولين، فحافظت على سلامة رعيتها وأمن بلدها، ومقدرات وطنها، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتٰبٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمٰنَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ * أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنٰظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ (سورة النمل الآيات 29-35).

     * يقول فضيلة الأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي في تفسيره لهذه الآيات.

     * وهنا يحكي لنا القرآن الكريم ما كانت عليه تلك المرأة من ذكاء وكياسة وإيثار للسلم على الحرب، واللين على الشدة قالت إن الملوك من شأنهم إذا دخلوا قريةً من القرى أو مدينةً من المدن بعد تغلبهم على أهلها عن طريق الحرب والقتال أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلةً أي أهانوا أشرافها وجعلوهم أذلةً بعد أن كانوا أعزةً ليكونوا عبرةً لغيرهم «وكذلك يفعلون».

     * وهذه هي عادتهم التي يفعلونها عند دخولهم قريةً من القرى عن طريق القهر والأسر والقتال.

     * والمقصود من قولها هذا: التلويح لقومها أن السلم أجدى من الحرب، وأن الملاينة مع سليمان - عليه السلام - أفضل من المجابهة والمواجهة بالقوة(1).

     * وقال قتادة رحمه الله ورضي عنه: «ما كان أعقلها في شركها وفي إسلامها»(2).

     * ولقد اكتملت حصافة ملكة سبأ حين عرفت الحق فلزمته فأسلمت ومعها قومها: ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِيْ وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمٰنَ لله رَبِّ الْعٰلَمِيْنَ﴾ (سورة النمل آية 44).

     * فانظر - رحمك الله - إلى تصرف هذه المرأة للتأكد بأن المرأة العاقلة الرشيدة يعطيها الإسلام حقها ويرفع قدرها ويعلي شأنها ويضرب بها الأمثال لتكون قدوةً يحتذى بها ويستفاد منها وينتفع بمشورتها.

     * وإذا كانت هذه هي بعض الأخبار التي ساقها القرآن الكريم عن نساء فضليات كان لهن دور حيوي ومؤثر في بناء المجتمع وإقامة الحضارات، وهداية الحائرين فإن كتاب الله الخالد لم يغفل الحديث عن البيت النبوي لنتعلم منه حسن العشرة وقمة اللياقة وصفاء العقيدة وحسن الإيمان وكمال التقوى.

     * فما أحوج نساء اليوم إلى الاستفادة من سلوك أمهات المؤمنين وحسن تبعلهن وتضحيتهن في سبيل سعادة الرسل صلى الله عليه وسلم، وجهادهن في سبيل نشر الدعوة، وإننا نهيب ببعض نسائنا المتمردات على شرع الله المنبهرات بمفاتن الغرب والاستماع إلى غواية الشياطين أن يقرأن ما سطره القرآن الكريم في سورة الأحزاب حتى يعود إليهن العقل ويرجع إليهن الرشد؛ لأن الطمأنينة في ظل العفة والقناعة، والسعادة في ظل الإيمان وكمال الإحسان، قال تعالى: ﴿يَا نِسَآءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِله وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا * يَا نِسَآءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى وَأَقِمْنَ الصَّلوٰةَ وآتِينَ الزَّكوٰةَ وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلٰى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيٰتِ الله وَالْحِكْمَةِ إِنَّ الله كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾ (سورة الأحزاب الآيات 30-34).

     * إن شعار مساواة المرأة بالرجل التي تعقد من أجله المؤتمرات وتنفق من أجله الأموال لايمكن أن يرقى بأي حال من الأحوال بالمرأة إلى معنى الإنسانية، لأن ظاهر هذه المؤتمرات الرحمة وباطنها فيه العذاب، ومعظم توصيات هذه المؤتمرات يحط من كرامة المرأة ويقلل من مكانتها لما فيها من إهدار لعفتها وضياع لعزتها، ويعلم الله ما تعانيه المرأة الغربية من تعاسة وشقاء وقلق واضطراب وضياع وهوان.

     * إن الإسلام أعلن عن قانون المساواة العادل والكامل الذي يعزز مكانة المرأة ويصون حقوقها أخرج الإمام الترمذي وغيره عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: «وما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء». فنزلت هذه الآية: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمٰتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنٰتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقٰنِتٰتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصّٰدِقٰتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصّٰبِرٰتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخٰشِعٰتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقٰتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصّٰئِمٰتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحٰفِظٰتِ وَالذّاكِرِينَ الله كَثِيرًا وَالذّٰكِرٰتِ أَعَدَّ الله لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ سورة الأحزاب آية 35)

السيدة خديجة بنت خويلد

     * إن التاريخ الإسلامي ثرى بالحديث عن المرأة وذكر مكانتها والدور الذي قامت به في جميع المجالات وفي كل ما يتعلق بشؤون الدنيا والآخرة معًا، ولا يمكن لأحد أن ينكر أو يتناسى الدور الذي قامت به السيدة «خديجة» للإسلام والمسلمين، فقد كان لها دور محوري ومهم في البناء الإسلامي، لقد ساهمت بأموالها وشاركت بآرائها في نشر الدعوة ومساندة الرسول صلى الله عليه وسلم.

     * إن التاريخ لم ولن ينسى ما قدمته سليلة الحسب والنسب السيدة «خديجة بنت خويلد» صاحبة أول قلب خفق بالإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي هيئ لها من جلال الحكمة وبعد الرأي، وذكاء القلب، وذكاء الحسب ما عز على الأكثرين من الرجال، كانت عاقلةً مصونةً كريمةً، قدمت الكثير للإسلام والمسلمين حيث بذلت مالها ووقفت بكل ما تملك بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها الطاهر.

     * ولقد ذكرت كتب السير بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتعبد في غار «حراء» طوال شهر رمضان وحينما نزل عليه الوحي – وللوحي وقعه وشدته – رجع يرتجب، فهدأت «خديجة» من روعه وطمأنته وقالت له: أبشر يا ابن العم وأثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، وكان مما قالته أيضًا مطمئنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الدهر، ولم تقف عند هذا الحد بل أرادت أن تزيد الرسول صلى الله عليه وسلم طمأنينةً وسكينةً فذهبت إلى ابن عمها «ورقة بن نوفل» وكان من المتحنفين، فأخبرته بما أخبرها به الرسول صلى الله عليه وسلم وما حدث له في غار «حراء» من نزول ملائك الوحي «جبريل» عليه السلام فقال «ورقة بن نوفل»: (قدوس قدوس والذي نفس ورقة بيده لئن صدقتيني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى. وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له: فليثبت)(3).

     * ولهذا كافأتها السماء:

     * يقول ابن هشام حدثني من أثق به أن «جبريل» عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (اقرئي خديجة السلام من ربها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خديجة (هذا جبريل يقرئك السلام من ربك، قالت خديجة: الله السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام).

     * وعن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب – رضي الله عنهما – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أبشر خديجة ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب»(4).

     * ووفاءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم للسيدة «خديجة» لم يتزوج عليها في حياتها تكريمًا لها وعرفانًا بحقها، وكان يقول بعد وفاتها.

     * عن أم المؤمنين «عائشة» - رضي الله عنها – قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر «خديجة» لم يكد يسأم من ثناء عليها واستغفار لها، فذكرها يومًا فحملتني الغيرة فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن، قالت: فرأيته غضب غضبًا أسقطت في خلدي وقلت في نفسي: أللهم إن أذهبت غضب رسولك عني لم أعد أذكرها بسوء «فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقيت قال: كيف قلت؟ «والله ما أبدلني الله خيرًا منها، لقد آمنت بي إذ كذبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، ورزقت منها الولد وحرمتموه مني، قالت: فغدا وراح علي بها شهرًا».

     * أجل لقد أثرت «خديجة» في حياة رسول الله تأثيرًا نفذ إلى قلبه فكانت مبعث الغبطة والسكينة عند تدافع النوائب واشتداد الخطوب.

السيدة عائشة – رضي الله عنها –

     * الصديقة بنت الصديق القرشية التيميَة المكية الفقيهة الربانية المبرأة من فوق سبع سماوات، أفقه نساء هذه الأمة على الإطلاق، ملأت أرجاء الأرض علمًا. ووعت من أحاديث رسول الله ما لم تع امرأة من نسائه، وروت عنه ما لم يرو مثله أحد من الصحابة إلا أبا هريرة رضي الله عنه.

     * كان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول: حدثتني الصادقة ابنة الصديق البريئة المبرأة بكذا وكذا، ذكره الشعبي عن مسروق. وقال أبو الضحى عن مسروق: رأيت مشيخة من أصحاب عن الفرائض، وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأيًا في العامة، وقال هشام بن عروة عن أبيه: ما رأيت أحدًا أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة.

     * قال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل.

     * وروى أهل البصرة عن أبي عثمان النهدي عن عمرو بن العاص سمعه يقول: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أحب إليك: قال: «عائشة» قلت فمن الرجال قال: أبوها.

     * ومن حديث أبي موسى الأشعري وحديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام».

السيدة أم سلمة – رضي الله عنها –

     * ولا ينسى التاريخ الموقف النبيل الذي قامت به السيدة الجليلة أم المؤمنين أم سلمة – رضي الله عنها – وأرضاها أثناء صلح الحديبية في رأب الصدع ولم الشمل عندما غضب الصحابة من شروط صلح الحديبية ولم يمتثلوا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم أن ينحروا جزورهم، فدخل على السيدة أم سلمة وذكر لها ما لقي من القوم، فأشارت عليه قائلةً: يا نبي الله أتحب ذلك؟ أخرج لا تكلم أحدًا منهم كلمةً حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فليحلق لك، فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ثم حلق وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمشورة أم سلمة، فلما رأى المسلمون ذلك قاموا جميعًا فنحروا وحلقوا واقتدوا بنبي الأمة صلى الله عليه وسلم وبذلك تكون قد ساهمت أم المؤمنين «أم سلمة» رضي الله عنها في حل مشكلة معضلة كادت أن تفتت جسد الأمة.

سمية أم عمار بن ياسر رضي الله عنهم

     * كانت «سمية» ممن عذبت في الله وصبرت على الأذى في ذات الله وكانت من المبايعات الخيرات الفاضلات رحمها الله، وسمية أم عمار أول شهيدة في الإسلام وجاءها أبو جهل بحربة فطعنها في موضع عفتها فقلتها وماتت قبل الهجرة رضي الله عنها.

     * عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن أبا جهل طعن بحربة في فخذ سميّة أم عمار حتى بلغت فرجها فماتت، فقال عمار: يا رسول الله بلغ منا أو بلغ منها العذاب كل مبلغ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صبرًا أبا اليقظان اللهم لا تعذب أحدًا من آل ياسر بالنار.

     * عن مجاهد قال: أول شهيد استشهد في الإسلام سمية أم عمار، قال، وأول من أظهر الإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوبكر وبلال وصهيب وخباب وعمار وسمية أم عمار.

نسيبة بنت كعب رضي الله عنها

     * كانت قد شهدت بيعة العقبة وشهدت أحدًا مع زوجها زيد ابن عاصم ومع ابنيها حبيب وعبد الله ثم شهدت بيعة الرضوان ثم شهدت مع ابنها عبد الله وسائر المسلمين اليمامة فقاتلت حتى أصيبت يدها وجرحت يومئذ اثنى عشر جرحًا من بين طعنة وضربة.

أسماء ذات النطاقين

     * ومَنْ من العقلاء والمنصفين والمؤرخين لا يعرف تاريخ أسماء بنت أبي بكر (ذات النطاقين) والتي ساهمت في نجاح خطة هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من «مكة» إلى «المدينة» فكانت تتمتع بشجاعة نادرة وثبات لا يضاهي، كانت تخرج في جنح الليل تحمل الطعام والشراب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسط صعوبات بالغة وعقبات كؤود.

     * يقول ابن هشام: وسمعت غير واحد من أهل العلم يقول: ذات النطاقين وتفسيره إنما لما أرادت أن تعلق السفرة شقت نطاقها باثنتين فعلقت السفرة وانتطقت بالآخر(5).

     * وقد روى عنها أنها قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوبكر رضي الله عنه أتانا نفر من قريش فيهم «أبوجهل عمرو بن هشام»فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت لا أدري والله أين أبي، قالت: فرفع أبو جهل يده وكان فاحشًا خبيثًا فلطم خدي لطمة طرح منها قرطى(6).

     * ولقد وجد على مر القرون نساء تجاوزن علوم فرض العين إلى فروض الكفاية فكانت منهن المحدثات العظيمات والروايات الثقات، وهذا الإمام محمد بن سعد صاحب الطبقات يعقد جزءًا من كتاب «الطبقات الكبرى» لروايات الحديث من النساء أتى فيه على نيف وسبعمائة امرأة روين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن صحابته رضي الله عنهم وروى عنهم أعلام الدين وأئمة المسلمين، وكذا فعل غيره من الأئمة في مصنفاتهم.

     * وهل تجد موطنًا أوثق ومرتقى أسمق ومنزلة أوثق من أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو العالم الأشم الذي لا يدانيه أحد في علمه وحكمته وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته يتلقى الحديث على مولاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تقوم على خدمته وهي ميمونة بنت سعد، فكيف بمن دون علي رضي الله عنه .

     * لقد تصدت المرأة لفنون العلم وشؤون الأدب وأمعنت في كل ذلك إمعانًا أعيا على الرجال دركه في مواطن كثيرة. وكان لها مظهر خلقي كريم في العلم والتعلم، وامتازت المرأة المسلمة بالعلم والأمانة حتى قال الحافظ الذهبي في كتابه «ميزان الاعتدال»: ما علمت من النساء من اتهمت ولا من تركوها(7).

     * لقد اقتحمت المرأة المسلمة منذ فجر التاريخ ميادين العمل فجاهدت بنفسها واشتغلت بالزراعة والتجارة والصناعة وأسهمت بكل ما تملك في بناء الأسرة صوناعة الرجال وصنع الحضارات.

     لقد سلكت دروب الحياة شامخة النفس مرفوعة الهامة موفورة الكرامة محتشمةً في زيها أبيةً في نفسها معتزةً بدينها.

     * فما أحود نساء اليوم إلى الاقتداء بهن والسير على منوالهن.

     * وفي الختام نقول: إن المرأة المسلمة من أعظم أسباب القوة في المجتمع فهي تملك من المواهب الضخمة الجديرة بأن تبنى أمة أو تهدم أمة، ونهيب بنسائنا المسلمات الفضليات ألا ينخدعن بشعارات الغرب الجوفاء ومقولاته الصفراء التي لاتسمن ولا تغني من جوع ولو عرفت الأخت المسلمة ما تعانيه المرأة الغربية من ذل وهوان وضياع بسبب جموحها وراء الشهوات وتحللها من القيم والأخلاقيات لسجدن شكرًا لله على نعمة الإسلام وازددن تمسكاً بقيمه الرفيعة.

     والله من وراء القصد والهادي إلى سواء السبيل.

*  *  *

الهوامش:

(1)    التفسير الوسيط للقرآن الكريم للدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر.

(2)    تفسير ابن كثير.

(3)    سيرة ابن هشام.

(4)    رواه البخاري ومسلم .

(5)    السيرة النبوية لابن هشام.

(6)    السيرة النبوية لابن هشام.

(7)    ميزان الاعتدال للذهبي ج4، ص:604.

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الثاني – جمادى الأولى 1432هـ = مارس - أبريل 2011م ، العدد : 4 - 5 ، السنة : 35